الأمازيغية في صلب الهوية المغربية
يشهد المغرب تحولا ثقافيا واجتماعيا عميقا، حيث أصبحت الأمازيغية تحتل مكانة مركزية في النقاش العام بعد دستور 2011 الذي أقرها كلغة رسمية إلى جانب العربية. هذا الاعتراف الدستوري لم يأت من فراغ، بل هو نتاج مسار طويل من النضال والمطالبة بإدماج المكون الأمازيغي في الهوية الوطنية. ومع ذلك، رغم الإنجازات المحققة، لا تزال هناك تحديات كبرى تعترض تعميم الأمازيغية في التعليم والإعلام والمجال العام، مما يفرض قراءة نقدية لواقعها وآفاق تطورها.
المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية: محرك رئيسي للإصلاح
يعتبر المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية (IRCAM) أحد أهم الركائز التي اعتمد عليها المغرب لترجمة المكاسب الدستورية إلى سياسات ملموسة. منذ تأسيسه سنة 2001، عمل المعهد على عدة مستويات، بدءاً بوضع مناهج تعليمية للغة الأمازيغية في المدارس الابتدائية، ومروراً بتوحيد حرف تيفيناغ، ووصولاً إلى إطلاق القناة الأمازيغية "تمازيغت تيفي" كأول قناة عمومية ناطقة بالأمازيغية. كما ساهم في إحداث مسالك جامعية متخصصة في الدراسات الأمازيغية، مما فتح الباب أمام تكوين جيل جديد من الباحثين والمهتمين بهذا المجال.
لكن هذه الجهود تصطدم بواقع تعليمي لا يزال يعاني من نقص حاد في الأساتذة المؤهلين، حيث لا تتجاوز نسبة التلاميذ الذين يدرسون الأمازيغية 15%، بينما لا يشكل المدرسون المتخصصون سوى 4% من مجموع أساتذة الابتدائي. هذا التفاوت بين الجهد المؤسساتي والواقع الميداني يطرح تساؤلات حول جدوى السياسات المعتمدة، ويُبرز الحاجة إلى إرادة حكومية أقوى لتعميم تدريس الأمازيغية بشكل أفقي وعمودي.
الإعلام الأمازيغي: بين الطموح والواقع
لطالما كان الإعلام أداة حيوية لتعزيز حضور الأمازيغية، وقد نجح المعهد في إقناع الدولة بضرورة إدماجها في دفاتر تحملات الإعلام العمومي. فبالإضافة إلى إطلاق القناة الأمازيغية، تم إنتاج العديد من البرامج الثقافية والتعليمية التي ساهمت في التعريف باللغة والتاريخ الأمازيغي. كما تم تكوين أطر إعلامية متخصصة في هذا المجال، سواء عبر التكوين الأساس أو المستمر.
لكن رغم هذه الجهود، لا يزال حضور الأمازيغية في القنوات الوطنية الأخرى ضعيفاً، سواء على مستوى المساحة الزمنية أو نوعية البرامج المقدمة. فالقناة الأولى والقناة الثانية العموميتان تخصصان حيزاً محدوداً جداً للأمازيغية، بينما تبقى الإذاعات الأمازيغية المحلية تعاني من ضعف التمويل والتغطية. هذا الواقع يفرض إعادة النظر في سياسات الإعلام العمومي، خاصة بعد دسترة الأمازيغية، حيث أصبح من المفترض أن تحتل مكانة متساوية مع العربية في المشهد الإعلامي الوطني.
الثقافة الأمازيغية: بين الذاكرة والحداثة
يعد الحفاظ على التراث الثقافي الأمازيغي أحد أهم أدوار المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية، حيث عمل على توثيق التراث الشفوي عبر جمع القصص والأشعار والأمثال الأمازيغية قبل أن تندثر. كما ساهم في تشجيع الإبداع الأدبي والفني من خلال جوائز مثل "جائزة الثقافة الأمازيغية"، التي تحفز الكتاب والمبدعين على إنتاج أعمال باللغة الأمازيغية.
لكن التحدي الأكبر يتمثل في كيفية جعل هذا التراث حياً في الواقع المعاصر، سواء عبر إدماجه في المناهج التعليمية أو عبر الفنون الحديثة مثل السينما والمسرح. فالثقافة الأمازيغية ليست مجرد ذاكرة من الماضي، بل هي عنصر حيوي في تشكيل الهوية المغربية المستقبلية.
آفاق المستقبل: أي سياسة لترسيخ الأمازيغية؟
لكي تتحول الأمازيغية من لغة دستورية إلى لغة حية في المجتمع، يجب اتخاذ إجراءات عملية، مثل:
- تعميم تدريسها في جميع المستويات التعليمية، مع توفير الأساتذة والوسائل البيداغوجية الكافية.
- تقوية حضورها في الإعلام عبر زيادة ساعات البث الأمازيغي وتنويع البرامج.
- حماية التراث المادي (كالمعالم الأثرية) والتراث اللامادي (كالأغاني والعادات).
- تشجيع البحث الأكاديمي في الثقافة الأمازيغية عبر تعزيز المسالك الجامعية.
رغم التقدم المحرز، لا تزال الأمازيغية في حاجة إلى سياسات أكثر جرأة لضمان حضورها الفعلي في الحياة العامة. فالهوية المغربية لا تكتمل إلا بالاعتراف الكامل بمكونها الأمازيغي، وهو ما يتطلب تضافر جهود الحكومة والمجتمع المدني والمؤسسات الثقافية. فالأمازيغية ليست مجرد لغة أو تراث، بل هي جزء أساسي من تاريخ المغرب وحاضره ومستقبله.
لا تقرأ وترحل، يمكنك ترك تعليق جميل